التاريخ مرة ثالثة
د. محمد كمال مصطفى
استشارى إدارة وتنمية الموارد البشرية
سألنى تلميذى مرة ثانية لماذا تصر على رفض التاريخ ، ومازالت حكمة التاريخ قائمة فى أنه سيظل إلى أن تقوم الساعة هو ذاكرة البشرية ، ومازال الوعى بالتاريخ هو الذى يشكل الوعى بالحاضر والمستقبل ؟
وكان ردى عليه هو أننى رغم رفضى للتاريخ ولحكمة التاريخ فإننى أرفض حكمة التاريخ التى تقول أن التاريخ سيعيد نفسه وأن دورة الحضارات ستعود مرة ثانية ، وأن من كانوا أساتذة للعالم ستعود لهم أستاذيتهم له ، وأن حكمة التاريخ فى حكمة عظمائه وسلفه الصالح .. لأن حكمة التاريخ فى أنه يُصنع من المستقبل ولا يصنع لا من الماضى ولا من الحاضر .
وأن حكمة التاريخ فى قدرة من استطاعوا أن يحدثوا تحولات نوعية ليس بالأقوال والآراء والأفكار ولكن بالاكتشافات والاختراعات ، وأن حكمة التاريخ فى صناعة المستقبل بالعلم .
أما الوعى بالتاريخ فهو إدراك التفرقة بين ما هو بدائى وما هو متحضر وما هو متخلف وما هو متقدم ، وما هو قادر على تشكيل الواقع وما هو عاجز أمام ما يجرى حوله ، بين ما هو فاعل ، وما هو مفعول به عبر كل مراحل وأحداث التاريخ .
هذه هى حكمة التاريخ ، وهذا هو الوعى بالتاريخ .
أنا أعرف أنك ستقول لى لقد كنا فاعلين وأصحاب حضارة وقادرين لآلاف السنين ، وهنا أقول لك هذا ما أرفضه ، ولهذا رفضت أن يكون التاريخ هو أن نعيش فى الماضى .. وأن لا نخرج من حكمة التاريخ إلا بالذكرى ، والتباهى بآثار وحضارة الأجداد ، دون أن تكون حضارة الأجداد وحكمة التاريخ حلقة اتصال وقوة دافعة نحو المستقبل .
هذه يا سيدى هى الأمية الحضارية ، والتى تعنى أن تنقطع الصلة بين الماضى والحاضر وأن نعيش فى الذكرى وأن نجتر التاريخ ، وأن نظل مفعول بنا وليس فاعلين فى واقع الحضارة الإنسانية الحالية .
أين حكمة التاريخ ؟ وأين الوعى بالتاريخ ؟ وأين أقوال وأفعال السلف الصالح؟ وماذا يمكن ان يفعل كل هؤلاء فى تغيير واقعنا ؟
وإذا كان الإمام الشافعى قد قال نعيب زماننا والعيب فينا .
فاسمح لى أن أقول أن العيب الذى فينا هو أننا غير جادين إلا فى الإصرار على العيش فى الماضى .
العيب فى ذلك الإصرار على شدة التمسك بأقوال وأفعال وقياسات ومعايير وضوابط وأحكام لم تتجاوز القرن الثانى الهجرى .
العيب هو أننا نفهم حكمة التاريخ على أننا سنعود لأستاذية العالم ونحن لا نملك أدوات هذه الأستاذية التى هى العلم الذى لا نملكه .
فماذا لو سألت الأصدقاء على الجانب الآخر بكل أطيافهم وفرقهم ماذا قدمتم من علم ومن مخترعات ومن اكتشافات ومن نظم ونظريات عبر مائة عام ليس للبشرية بل حتى على مستوى مجتمعكم ، إلا أفكار وآراء طائفية .
ماذا تقدمون أكثر من الوعد المشكوك فيه للبسطاء من الناس بتحسين أحوالهم لأنكم لستم فاسدون مثل الحكام السابقون ، وأنكم ستقومون بتحقيق العدالة .
هذا وعد لن يتحقق لأن الفساد لا يحارب لا بالدين ولا بالخلق القويم ولكن بالقانون وإعمال القانون واحترام القانون .
والعدالة لا تتحقق إلا بزيادة الموارد والنواتج .. وتحقيق أعلى درجات الإنتاجية بالوصول إلى أعلى قدر من المخرجات من أقل قدر من المدخلات ، ولا يكون ذلك إلا بالعلم ، ولا تكون عدالة التوزيع إلا بالاحتكام المطلق لمعايير الكفاءة، وتفعيل التمكين ، والرعاية لغير القادرين .
صدقونى لو لم تغيروا فهمكم للتاريخ ولحكمة التاريخ ، والوعى بالتاريخ من الاعتقاد المطلق فى أن الماضى يمكن أن يعود ، إلى أن التاريخ لا يكرر نفسه وأن تجمع الضعفاء لا يولد القوة أبداً وأن التطلع إلى الأخذ بمتغيرات العصر والزمن الحالى وأدواته هو السبيل إلى النجاة ، وأن الحياة لا يمكن أن يعاد صياغتها على أساس إخضاع كل شىء فى الحركة اليومية للإنسان تحت شارة الدين ، وأن هذا كان يمكن حدوثه فى التاريخ ، ولمجتمعات لم يكن متاح لها حجم العلم والمعرفة المتاحة لنا .
كم أنا متأكد أن جوهر المشكلة هو أنكم قد حصرتم حكمة التاريخ فى أنه قد حدث فعلاً عند الأجداد ولدى السلف الصالح أن الدين كان أداة للإدارة الاجتماعية والضبط الاجتماعى ، وقد كان نجاحهم لأنهم فعلوا هذا بالدين .
يا سادة صدقونى فى عالمنا هذا ، عالم ما بعد زوال حدود الزمان والمكان ، عالم ارتياد العوالم والكواكب الأخرى ، لا يمكن أن يكون الدين أداة للإدارة الاجتماعية ولا حتى للضبط الاجتماعى .
فالإدارة الاجتماعية تتم بما وصل إليه العلم فى مجال الاقتصاد ، والسياسة والإدارة ، والاجتماع ، والضبط الاجتماعى يتم بالقانون ، وبما وصل إليه العلم فى مجال التربية والاتصال .. ولا بديل غير ذلك .
الدين هو لله ، والمرجعية للعلم ، ولا للنقل ، ونعم للاختراع والاكتشاف والإبداع ، والتطوير ، والتطويع والمواءمة ، ولا لحكمة التاريخ إذا كانت هى أن الماضى يمكن أن يعود ، ولا للوعى بالتاريخ إذا كان هو البحث عن حلول لمشاكلنا عند الأجداد وفى التاريخ ، فهذا هو قمة الوعى الساذج .
أم لكم رأى آخر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق